العلم بصفات الله
أمر بالعلم بصفة من صفات اللَّه وهي أنه ﴿شديد العقاب﴾
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)13 البقرة (196)-
ذكر في تفسير التحرير والتنوير : «وقوله: ﴿واعلموا أن اللَّه شديد العقاب﴾ افتتح بقوله : ﴿واعلموا﴾ اهتماماً بالخبر، فلم يقتصر بأن يقال: ﴿واتقوا اللَّه إن اللَّه شديد العقاب﴾ فإنه لو اقتصر عليه لحصل العلم المطلوب، لأن العلم يحصل من الخبر، لكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم، لأنه في معنى تحقيق الخبر، كأنه يقول: لا تشكوا في ذلك، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : ﴿واتقوا اللَّه واعلموا أن اللَّه مع المتقين﴾»([1]).
أمر بالعلم بأن اللَّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾17 البقرة( 231)-
ذكر الطبري: «وقوله: ﴿واعلموا أن اللَّه بكل شيء عليم﴾، يقول: واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حد لكم هذه الحدود, وشرع لكم هذه الشرائع, وفرض عليكم هذه الفرائض، في كتابه وفي تنـزيله على رسوله محمد e بكل ما أنتم عاملوه- من خير وشر, وحسن وسيئ, وطاعة ومعصية, عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره، شيء, وهو مجازيكم بالإحسان إحساناً, وبالسيئ سيئاً, إلا أن يعفو ويصفح، فلا تتعرضوا لعقابه وتظلموا أنفسكم»([2]).
وفي تفسير التحرير والتنوير: «وقوله: ﴿واتقوا اللَّه واعلموا أن اللَّه بكل شيء عليم﴾ تذكير بالتقوى، وبمراعاة علمهم بأن اللَّه عليم بكل شيء، تنزيلاً لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة، منزلة من يجهل أن اللَّه عليم، فإن العليم لا يخفى عليه شيء، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء، لأن هذا العليم قدير»([3]).
وفي هذا العلم تحذيرفي مخالفة حدود اللَّه, وترغيب في الالتزام بها، وخصوصاً أن الخلاف بين الزوجين، وهو يكون داخل البيوت.
أمر بالعلم بأن اللَّه بصير
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)18 البقرة( 233)-
ورد في التحريروالتنوير عن قوله: «﴿واعلموا أن اللَّه﴾ تذكير لهم بذلك، وإلاّ فقد علموه»([4]).
وفي صفوة التفاسير: «واعلموا أَنَّ اللَّه: إِظهار الاسم الجليل في موضع الإِضمار لتربية المهابة والروعة»([5]).
العلم (بصفة اللَّه)
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)20 البقرة(259) –
ذكر ابن أبي حاتم في تفسيره: «عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: “ذُكِرَ لَنَا، وَاللَّه أَعْلَمُ، أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه مِنْهُ عَيْنَاهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَخْلُقُ بَعْدُ بَقِيَّةَ خَلْقِهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنَيْهِ، كَيْفَ يَكْسُو الْعِظَامَ لَحْمًا، لِيَعْتَبِرَ، وَيَعْلَمَ أَنَّ اللَّه يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَلَمَّا رَأَى مَا أَرَاهُ اللَّه مِنْ ذَلِكَ، أَجَابَ رَبَّهُ خَيْرًا، فِي مَعْرِفَتِهِ، فَقَالَ: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾»([6]).
أما الواحدي، فقد ذكر في تفسيره الوجيز: «﴿قال اعلم أن اللَّه على كل شيء قدير﴾ أي : اعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإشكال، وتأويله: إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيباً»([7]).
وذكر البغوي في تفسيره: «قرأ حمزة، والكسائي مجزوماً على الأمر على معنى قال اللَّه تعالى: اعلم»([8]).
وفي زاد المسير : «وقرأ الجعفي عن أبي بكر: ( أعلم) بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغير»([9]).
وذكر في تفسير مفاتيح الغيب عن الذي مر على قرية: «وحجة من قال: إنه كان مؤمناً، وكان نبياً من وجوه، الأول: أن قوله: ﴿أو كالذى مر على قرية وهي﴾ يدل على أنه كان عالماً باللَّه، وعلى أنه كان عالماً بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة»([10]).
وورد في تفسير القرطبي عن كلمة أعلم: «معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.
وورد كذلك في موضع آخر: وفي حرف عبد اللَّه ما يدل على أنه أمر من اللَّه تعالى له بالعلم على معنى الزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه: قيل اعلم»([11]).
أما في تفسير ابن عاشور: «وقوله: ﴿قال أعلم أن اللَّه على كل شيء قدير﴾ قرأ الجمهور: أعلم بهمزة قطع على أنّه مضارع عَلم، وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك؛ لأنه عَلمِه في قبلُ وتجدد علمه إياه»([12]).
وفي زهرة التفاسير عن كلمة أعلم – فنقول: «إن العلم درجات، واليقين درجات، فالعلم المبني على الأدلة العقلية، وعلى الإذعان المطلق للحق ببيان من لَا يتطرق الظن إلى قوله هو نوع من العلم القاطع الجازم، وهو مهما تكن درجته من القوة والإيمان والإذعان دون العلم المبني على التجربة والحس والعيان، فذلك العلم المبني على التجربة، والحس هو العلم الجديد الذي علمه ذلك النبي، والذي كان نتيجة لذلك التبين الحسي الذي لم يعتمد على التفكير المجرد، بل اعتمد مع ذلك على قوة الحس والتجربة، فالتقى للعلم سببان: سبب مشتق من التفكير والإيمان والتصديق، وسبب آخر مشتق من التجربة والعيان»([13]).
الاستفهامُ الإنكاريُّ لتقرير العلم باللَّه
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)25 المائدة( 40)-
يذكر الطبري في تفسيره: «قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد e: ألم يعلم هؤلاء[يعني القائلين] لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً, الزاعمين أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه أن اللَّه مدبِّر ما في السموات وما في الأرض، ومصرفه وخالقه، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أرادَه، لأن كل ذلك ملكه، وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما، ولا مما في واحدة منهما، فيحابيه بسبب قرابته منه، فينجيه من عذابه، وهو به كافر، ولأمره ونهيه مخالف، أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه، ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ، وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة، وينجيه من العقوبة، (واللَّه على كل شيء قدير)، يقول: واللَّه جل وعز على تعذيب من أرَاد تعذيبه من خلقه على معصيته، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه، وغير ذلك من الأمور كلها قادرٌ، لأن الخلق خلقُه، والملك ملكه، والعباد عباده.
وخرج قوله: (ألم تعلم أن اللَّه له ملك السموات والأرض)، خطابًا له e، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول اللَّه e وما حَوَاليها، وقد بيَّنا استعمال العرب نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع»([14]).
أما البغوي فيقول في تفسيره: «الخطاب مع النبي e، والمراد به الجميع، وقيل: معناه ألم تعلم أيها الإنسان، فيكون خطاباً لكل أحد من الناس»([15]).
وصاحب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم يقول: «والاستفهامُ الإنكاريُّ لتقرير العلم»([16]).
ويقول الشعراوي في تفسيره عن الاستفهام ألم تعلم: «ويستخدم الحق سبحانه من أساليب البيان ما يخرجنا عن الغفلة، فلم يقل: «اللَّه له ملك السموات والأرض»، ولو كان قد قال ذلك لكان الأمر خَبَراً من المتكلم وهو اللَّه، ولكنه يريد أن يكون الخبر من المُخَاطَب إقراراً من العبد.
ولا يخرج الخَبَر مَخرج الاستفهام إلا وقائل الخبر واثِقٌ من أن جواب الاستفهام في صالحه»([17]).
ذَلِكَ الْجَعْلَ لِأَجْلِ العلم باللَّه
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)27 المائدة( 97)-
أعطانا ربنا معلومات ملموسة عن نفسه، لنستدل بها على حقائق عن اللَّه، ولنعلم معلومات حقيقية غيبية عن اللَّه كأنها رأي العين.
إذا أردنا أن نسأل أنفسنا سؤالاً نعرف به سر ورود كلمة ( لتعلموا )، نقول: لماذا جعل اللَّه الكعبة ؟
الجواب: لتعلموا عن اللَّه، أنه يعلم …
ذكر الطبري في تفسيره قال أبو جعفر: «يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم, علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم, ولتعلموا أنه بكل شيء (عليم), لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم, وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته»([18]).
ويلخص الواحدي في تفسيره معنى (ذلك) أي: ذلك الذي أنبأتكم به في هذه السورة من أخبار الأنبياء، وأحوال المنافقين واليهود، وغير ذلك ﴿لتعلموا أن اللَّه يعلم ما في السماوات﴾ الآية أي: يدلكم ذلك على أن لا يخفي عليه شيء»([19]).
ويقول صاحب تفسير المنار: «أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَعْلَ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا مِنْهُ إِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ U جَعَلَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ فِي طَوْرِ جَاهِلِيَّتِهَا وَغَفْلَتِهَا وَتَفَانِيهَا فِي الْغَزْوِ وَالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، تَعْظِيمًا لِهَذَا الْمَكَانِ، وَلِلْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ فِيهِ، وَلِلزَّمَنِ الَّذِي فِيهِ تُؤَدَّى هَذِهِ الْأَعْمَالُ»([20]).
وفي تفسير ابن عاشور يقول في هذا المعنى كلمة رائعة: «فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل اللَّه الكعبة قياماً لأجلها»([21]).
أمر بالعلم بصفات اللَّه
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }28 المائدة( 98)-
وقد ذكرت تفسيرها في العلم بالأسماء.
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)139-الأنفال( 25)-
إن لم يخبرنا ربنا عن نفسه هذا الخبر، وإن لم يعطِنا هذه المعلومة، ونعلم عنه أنه شَدِيدُ الْعِقَابِ، فما الذي يحثنا على لزوم الاستقامة إليه، والخوف من عقابه.
وفي تفسير الطبري: «وأما قوله: (واعلموا أن اللَّه شديد العقاب)، فإنه تحذير من اللَّه، ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله: (واتقوا فتنة)، يقول: اعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم شديد عقابه لمن افتُتن بظلم نفسه، وخالف أمره, فأثم به»([22]).
وفي تفسير المنار لرشيد رضا: «﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لِمَنْ خَالَفَ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلِمَنْ خَالَفَ هِدَايَةَ دِينِهِ الْمُزَكِّيَةَ لِلْأَنْفُسِ، وَقَطْعِيَّاتِ شَرْعِهِ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ.
وَهَذَا الْعِقَابُ مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْأَفْرَادِ أَوْ لِلْأُمَمِ، وَعِقَابُ الْأُمَمِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُطَّرِدٌ فِي الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ أَهْلُ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانُوا خَيْرَهَا بَلْ خَيْرَ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي دَرْءِ الْفِتْنَةِ الْأُولَى عَاقَبَهُمُ اللَّه عَلَيْهَا عِقَابًا شَدِيدًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَكَذَا تَسَلْسَلَ الْعِقَابُ فِي كُلِّ جِيلٍ وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ، ثُمَّ امْتَزَجَتِ الْفِتَنُ الْمَذْهَبِيَّةُ بِالْفِتَنِ السِّيَاسِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ»([23]).
وفي ظلال القرآن: «والفتنة: الابتلاء أو البلاء.. والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره، وأظلم الظلم أن يروا ألوهية اللَّه تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ومن أظلم الظلم نبذ شريعة اللَّه ومنهجه للحياة
وهم ساكتون. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم اللَّه من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون!»([24]).
وفي التحرير والتنوير: «فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة للَّه وللرسول عليه الصلاة والسلام، دب بينهم الاختلاف، واضطربت أحوالهم، واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء، وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة.
وافتتاح جملة: ﴿واعلموا أن اللَّه شديد العقاب﴾ بفعل الأمر بالعلم للاهتمام لقصد شدة التحذير، والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة»([25]).
وفي زهرة التفاسير لمحمد أبو زهرة: «ولم يبق إلا أن نعلم أن اللَّه أنذرنا بعقابه فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وإنا قد علمناه، ولم نرتدع عن غينا، ونسلك طريق ربنا، علمناه وآمنا به، ورأينا بعضه، وهو عقاب الدنيا، فتفرق جمعنا، وتقطع الأمر بيننا، وتحكِّم الأعداء فينا وصرنا نهبا مقسوما، وما يلقانا يوم القيامة أشد هولا، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه»([26]).
علم بعظمة علم اللَّه
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)158-التوبة( 78)-
قال الطبري: «ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون باللَّه ورسوله سرًّا, ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرًا (أن اللَّه يعلم سرهم)، الذي يسرُّونه في أنفسهم، من الكفر به وبرسوله (ونجواهم)، يقول: (ونجواهم)، إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله، وذكرِهم بغير ما ينبغي أن يُذكروا به, فيحذروا من اللَّه عقوبته أن يحلَّها بهم، وسطوته أن يوقعها بهم، على كفرهم باللَّه وبرسوله، وعيبهم للإسلام وأهله, فينـزعوا عن ذلك، ويتوبوا منه (وأن اللَّه علام الغيوب)، يقول: ألم يعلموا أن اللَّه علام ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسّهم، مما أكنّته نفوسهم, فلم يظهرْ على جوارحهم الظاهرة، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب, ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه، وإظهار خلاف ما يعتقدونه؟»([27]).
وفي نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: «ولما كانت المعاهدة سبباً للإغناء في الظاهر، وكان ذلك ربما كان مظنة لأن يتوهم من لا علم له أن ذلك لخفاء أمر البواطن عليه سبحانه، وكان الحكم هنا وارداً على القلب بالنفاق الذي هو أقبح الأخلاق، مع عدم القدرة لصاحبه على التخلص منه، كان ذلك أدل دليل على أنه تعالى أعلم بما في كل قلب من صاحب ذلك القلب، فعقب ذلك بالإنكار على من لا يعلم ذلك والتوبيخ له والتقريع فقال: ﴿ألم يعلموا أن اللَّه﴾.
(وأن اللَّه) أي الذي له الإحاطة الكاملة (علام الغيوب) أي: كلها، أي: ألم يعلموا أنه تعالى لا يخادع لعلمه بالعواقب، فيخشوا عاقبته، فيوفوا بعهده، وفائدة الإعطاء مع علمه بالخيانة إقامة الحجة؛ قال أبو حيان: وقرأ علي، وأبو عبدالرحمن، والحسن: (ألم تعلموا) بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير. انتهى، وفائدة الالتفات الإشارة إلى أن هذا العلم إنما ينفع من هيئ للإيمان»([28]).
وأما في إرشاد العقل السليم، إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود العمادي: «وإظهارُ اسمِ الجلالةِ في الموقعين لإلقاء الروعةِ وتربيةِ المهابةِ، وفي إيراد العلم المتعلّق بسرهم ونجواهم بصيغة الفِعلِ الدالِّ على الحدوث والتجدد، والعلمِ المتعلقِ بالغيوب الكثيرةِ الدائمةِ بصيغة الاسم الدالِّ على الدوام، والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى، وعلى الثاني لتقرير علم المؤمنين بذلك، وتنبيههم على أنه تعالى مؤاخِذُهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم»([29]).
وفي ظلال القرآن: «ولقد كان من مقتضى علمهم بهذا، ألا يستخفوا عن اللَّه بنية, وألا تحدثهم نفوسهم بإخلاف ما عاهدوا اللَّه عليه، والكذب عليه في إعطاء العهود»([30]).
وأما في التحرير والتنوير: فـ«استئناف لأجل التقرير، والكلامُ تقرير للمخاطَب عنهم؛ لأنّ كونهم عالمين بذلك معروف لدى كلّ سامع.
وإنّما عطفت النجوى على السرّ مع أنّه أعمّ منها؛ لينبئهم باطّلاعه على ما يتناجَون به من الكيد والطعن.
ثم عَمّم ذلك بقوله: ﴿وأن اللَّه علام الغيوب﴾ أي: قوي علمُه لجميع الغيوب.
والغيوب: جمع غيب، وهو ما خفي، وغاب عن العيان»([31]).
وزهرة التفاسير لمحمد أبو زهرة: «الاستفهام إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ، و(لَمْ) نافية، ونفي النفي إثبات، والمعنى يعلمون علما لَا مرية فيه أن اللَّه تبارك وتعالى يعلم سرهم ونجواهم، والسر ما يكون في النفس، ويجري في العقل، وتحدثهم به نفوسهم، والنجوى ما يتناجون به ويتشاورون، ولا يعلنونه جهاراً بين الناس، أي أن اللَّه يعلم ما في نفوسهم وما ينوونه، وأكد سبحانه بأن اللَّه أحاط بكل شيء، بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّه عَلَّام الْغُيوبِ﴾ عطف هذا المصدر على ألم يعلموا، أي أنهم يعلمون أن اللَّه تعالى يعلم سرهم ونجواهم، وأن اللَّه تعالى علام الغيوب، يعلم ما استكن في نفوسهم من إرادة النفاق والكذب، وأنهم لن يوفوا»([32]).
ويرى الشعراوي: «والعلم هنا مقصود به معرفة الخبر الذي لم يكن معروفاً قبل ذلك، وقوله سبحانه: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ﴾ فيه همزة الاستفهام؛ ولم النافية مثل قول الحق سبحانه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)[ الفيل: 1] ونحن نعرف أن الإخبار بين المتكلم والمخاطب له عدة صور:
الصورة الأولى؛ ان يخبر المتكلم المخاطب بما عنده، وهذا (خبر).
والصورة الثانية: أن لا يخبر المتكلم مخاطبة بالخبر، بل يجعل المتكلم نفسه يقو الخبر، مثل قول أحد المحسنين: ألم أحسن إليك؟ وكان في استطاعته أن يقول «أنا أحسنت إليك»، فيكون خبراً من جهته، لكنه يريد أن يعطي للخبر قوة، فجعل الكلام من المسْتَفهَم منه، وكأن عرض الأمر مَعْرِض السؤال في معرض النفي؛ ثقة في أن المخاطَب لن يجد إلا جواباً واحداً هو: نعم أحسنت إليّ.
إذن: فالخبر إما أن يكون خبراً مجرداً عن النفي، أو خبراً معه النفي، أو خبراً معه الاستفهام.
وأقوى أنواع الإخبار: الخبر الموجود معه النفي، والموجود مع النفي الاستفهام؛ لأن الخبر على الصورة الأولى يكون من المتكلم، والخبر من المتكلم قابل لأن يكون صادقاً وأن يكون كاذباً.
ولكن الاستفهام يقتضي جواباً من المخاطَب، ولا يجيب المخاطَب إلا بما كان في نفس المتكلم؛ ولو كان المتكلم يعلم أن المخاطَب قد ينكر فلن يسأله.
أو يقول لإنسان: أنا راضي ذمتك، وهذا القول يعني أن قائله علم أنه لا حق غير هذا، ومن يدير الكلام في عقله لن يجد إلا أن ما يسمعه هو الحق.
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير﴾277-الحج( 70)-
ﱠ»([33]).